مقهى تريانون
على بعد خطوات منه سيجذبك مذاق يجمع بين الفخامة والأصالة، وحين تدخل ستندهش من أصناف حلوى الشوكولاته الشرقية والغربية وأنت تتذوقها على أنغام موسيقى رومانسية هادئة. في وسط الإسكندرية في شارع سعد زغلول، وأشهر ميادينها ميدان محطة الرمل، يطل مطعم وحلواني «تريانون» ببهائه المميز على ناصية ثلاثة شوارع رئيسية، بمظلاته البيضاء التي كتب عليها باللون الأحمر اسم المطعم الذي أصبح علامة مميزة في قلب الميدان العريق.
عالم «تريانون» يصيبك بالدهشة ويخلب الحواس، فالتصميم الأخاذ والديكورات البديعة التي تجمع بين الرونق الأوروبي ونقوش الخشب الشرقية والرسوم الرائعة لجوار شرقيات بريشة فنان إيطالي لا تزال محتفظة بألوانها الزاهية، والتي تخلق أجواء لا مثيل لها.
احد أقدم العاملين بـ« تريانون» المتر إمام، الذي يروى لنا حكاية «تريانون»، قائلا: «تريانون يوناني الأصل وتاريخه يعود لنحو 120 عاما، وقد اشتراه اليوناني يورغوس بيرليس مؤسس حلواني (بيتيت تريانون)، بعد ذلك اشتراه (جراند تريانو) مع عائلة قسطنطينيدس وأندريا دريكوس، وبدأوا في التوسع وفي السبعينات انفصل بيتيت وجراند تريانون، وتم تمصيره عام 1970، واشتراه مجموعة شركاء وهم: عائلة الحضري وجورج لوكا وسمير بولس». وأضاف: «أعمل هنا منذ عام 1981، وأتذكر بعض اليونانيين الذين كانوا يعملون بالمطعم كان أشهرهم اسمه كوستا وكان مسؤولا في المخازن، وياني في قسم الحلواني، والمتر ستاورو، وأليكو كان كاشيرا وهم من تعاملت معهم، وكنا نشرف على حفلات كثيرة مع رئيس الجالية اليونانية السابق بافيادس، وهو من أهم زبائن المحل».
يتابع إمام: «بمرور الوقت توسع تريانون وأصبح أشهر سلسلة مطاعم وحلويات في الإسكندرية والقاهرة، وامتدت فروعه من محطة الرمل وحتى العجمي ليقدم أكلات من المطبخ الفرنسي والإيطالي والصيني إلى جانب المأكولات الشرقية. وقد اشتهر تريانون بين كبريات العائلات بتقديمهم خدمات تجهيز الحفلات داخل وخارج الإسكندرية». شهرة تريانون ساهم فيها زبائنه أيضا، فقد كتب الأديب العالمي نجيب محفوظ فيه بعض سيناريوهات أفلامه، كما كان توفيق الحكيم من عشاقه وذكره في واحدة من أجمل السير الذاتية في الأدب العربي (سجن العمر)، كذلك كان من رواده الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر الراحل أمل دنقل.
ويحتفظ تريانون بتوقيعات رواده في عدد من المجلدات الأنيقة الخاصة بالزيارات وقادني الفضول للتعرف عليهم واستشراف ماضي المطعم العريق، فكان أهمهم: الملكة صوفيا ملكة إسبانيا ذات الأصل اليوناني، والأمير تركي بن عبد العزيز، والسيدة جيهان السادات، وفؤاد سراج الدين، والسير مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل وصفوت الشريف والمشير الجمصي وزير الدفاع إبان حرب 73، والأميرة فوزية والملكة ناريمان وأدهم النقيب زوج الملكة ناريمان. وكذلك كثير من الشخصيات البارزة والوزراء ونجوم السينما والتلفزيون، ومنهم: الفنان محمد أحمد المصري (أبو لمعة)، والفنانة يسرا وليلى علوي ولبلبة وأحمد زكي ومحمود مرسي وعباس فارس والفنان حمدي غيث الذي كتب: «لأول مرة أرتاد مطعم تريانون وسعدت بوجود هذا المستوى الرائع من الجمال بما لا يقل عن أعظم مستوى أوروبي».
بينما كتب كوستانتينو، وزير الداخلية اليوناني جملة معبرة عن سر عشق تريانون «دفء تريانون نابع من دفء الإسكندرانيين، وهذه الأجواء تعيدني بشدة إلى إسكندريتي الكوزموبوليتانية». ومن التوقيعات الطريفة توقيع إحدى الزبونات الإنجليزيات التي وقعت باسم الملكة إليزابيث في دعابة منها.
استقرت عيناي على البيانو العتيق بمظهره الآسر الذي يحتل ركنا يسيطر على قاعة الطعام بأكملها، تركني المتر إمام لأمارس هوايتي في العزف على أصابع ذلك البيانو الفرنسي الذي يعود إلى عام 1911، وأعيش تجربة ربما عاشها الكثيرون من رواد المطعم، وقال إمام مبتسما: «ابنه الرئيس السادات أيضا كانت تعشق العزف عليه كلما تناولت غداءها هنا».
قاعة الطعام تم إعادة تصميم ديكوراتها في عام 1987، لكن باقي جدران المطعم لا تزال محتفظة برونقها منذ 120 عاما، ويفخر إمام الذي يصطحب زبائنه في جولة ساحرة بين دهاليز تريانون، لافتا إلى أن كل قطعة أثاث في المطعم تعتبر من الأنتيكات الثمينة. أما القسم الثاني من تريانون فهو قسم الحلواني وهو يعج بأنواع الشوكولاته والحلويات ذات الأغلفة البراقة. ويتباهى المتر إمام - المعروف بوجاهته - بصورته التذكارية مع سيدة مصر الأولى السيدة سوزان مبارك، ومعه بعض من العاملين في تريانون، حيث قدموا خدماتهم في أكثر من مناسبة رسمية.
يعلو المطعم فندق «متروبول» العريق، وكان قبل ذلك مبنى وزارة الري، التي كان يعمل بها الشاعر اليوناني الشهير كفافيس، لكن المتر إمام ليس على يقين تام من أن كفافيس كان أحد رواد المكان لكنه يذكر جيدا الأديب اليوناني موسكوف الذي كان يعشق الكتابة في أحضان تريانون، بل إن أحد المواقف الطريفة التي لم ينسها إمام، حينما كتب موسكوف شيكا باليونانية لسداد ثمن غدائه في المطعم ونسي أن يكتب المبلغ، وسافر إلى القاهرة، فصعد المحاسب لصاحب فندق «متروبول»، يسأل عن عنوانه وهاتفه بالقاهرة، وكلمه أحد العاملين بـ«تريانون» في ذلك الوقت باليونانية، حيث كان جميع العاملين يتحدثون اليونانية بطلاقة، وجاء من القاهرة مخصوصا لكي يتحدث إليه ويعرف منه كيف كان يتحدث اليونانية بهذا الشكل! ونظرا لأصله اليوناني، يعتبر تريانون قبلة اليونانيين في الإسكندرية حيث تتوافد عليه أفواج من اليونانيين المصريين الذين ارتبطوا بذكريات في الإسكندرية ويقومون بالتقاط صور تذكارية بالمكان، ويقول إمام: «لي صديقة يونانية تأتي سنويا لزيارة الإسكندرية مع زوجها وهي تدعوني باستمرار لزيارة اليونان ومطعم الأسماك الذي تملكه، وبيننا علاقة إنسانية جميلة، وتتناول غداءها هنا يوميا». ويضيف المتر: «اليونانيون يحبون أصناف معينة عندنا ومنها: جبنة ريكوتا بالعسل وبلح الشوكولاته، والسلطة اليوناني (سيزار سالاد)، وأومليت بالبقدونس».
وأيضا تريانون اختيار عشاق الطعام الفرنسي، فهو يقدم الكوكتيلات وأصناف المأكولات البحرية، بل ابتكر صنفا جديدا وهو تقديم الجمبري بالكنافة والذي يقدم مع صوص حار، هذا فضلا عن الميكس غريل، والدجاج على الطريقة الصينية، والنودلز، هذا إلى جانب الشركسية أو الأوزي.
يبدأ تريانون في العمل من السابعة صباحا وحتى الواحدة صباحا، ولديه 5 فروع إلا أن أعرقها محل محطة الرمل، ويؤكد إمام: «أهم ما يميز تريانون هو احتفاظه بطابعه الكلاسيكي وتقديم منتجات جيدة وخدمة عالية المستوى، مما جعلنا محل ثقة للإشراف وإعداد المأكولات والمشروبات في حفل افتتاح مكتبة الإسكندرية مع ملوك وأمراء ورؤساء العالم». ويضيف: «عمري مع تريانون 30 سنة خدمت فيها ملك وملكة النرويج وولية العهد السويدية، والوزراء المصريين وأقمنا حلويات لكل مناسبات المراكز الثقافية الأجنبية.. وزمان إسكندرية لم يكن بها سوى تريانون وديليس وأثينيوس». ويؤكد إمام مكانه تريانون بين الوجهات السياحية في الإسكندرية إلا أنه يرى بوضوح انخفاض النشاط السياحي في المدينة، معللا ذلك بالظروف العالمية وعدم الاستقرار الاقتصادي.
ويحتضن «تريانون» اجتماعات ولقاءات نادي روتاري كوزموبوليتان، ومتروبوليتان، وصن رايز، وسيدات الروتاري. أما رواد المكان فمن جميع الجنسيات لذا يسعى لتلبيه كافة رغباتهم من جميع الأصناف والمأكولات. ويروي إمام مواقف طريفة صادفها مع الزبائن: «مرة في المساء جاءني مصري يعيش في ألمانيا منذ 24 سنة ونفسه يأكل فلفلا مقليا وباذنجانا بالخل والثوم وملوخية، وعملت له ملوخية بالأرانب والسلطة البلدي وكان في قمة السعادة ومنذ ذلك اليوم وهو يأتي من المطار على تريانون».
- فندق وحلوانى اثينيوس
أجواء «أثينية» على كورنيش الإسكندرية، في ثاني كبرى مدن مصر وثغرها الرئيس، يمنحها فندق «أثينيوس» للزائر ويمكّنه من متابعة حركة المارة على الكورنيش ولقاءات المحبين يحفها نسيم الأمواج العليل التي لم تنقطع يوما منذ شيّد الإسكندر المدينة عام 331 ق.م.
يتميز «أثينيوس» القابع في محطة الرمل الشهيرة، بديكوراته وأنتيكاته العتيقة المفعمة بروح الأساطير اليونانية وعبقها، يعززها طرازه المعماري الأوروبي المنفَّذ على يد أشهر المعماريين الإيطاليين والفرنسيين.
في تراث «مدينة الإسكندر» يعد «أثينيوس» أحد أهم العلامات الباقية الحارسة لعراقة ماضيها، وامتداده في الزمان والمكان. إذ يلجأ إليه كل من ينتابه حنين مدينة الذكريات، وهو ما زال محتفظا بتصميماته وديكوراته التي تعطي إحساسا بالفخامة والأرستقراطية، تطالعك حين تتأمل مجموعة من الصور التاريخية للإسكندرية، في كل ركن منه، ومنها صور لميدان محطة الرمل والمنشية تعود إلى القرن الماضي، وصور لأسرة محمد علي وملوكها وأمرائها وأميراتها، مما يجعل الزائر له يشعر كأنه في متحف توثيقي للمدينة.
يعقوب أحمد نصار، صاحب مطعم وحلواني «أثينيوس»، يقول: «إن كلمة (أثينيوس) تعني باللغة اللاتينية (الأثيني)، وكان صاحبه يونانيا اسمه كوستانتينوس أثينيوس، وقد امتلك المكان عام 1900 بعدما حصل عليه من تاجر يهودي إيطالي، وظل يديره حتى أواخر عام 1954. وعندما توُفّي تولت زوجته كاتينا إدارة المطعم حتى عام 1969، وقد أدخلت إليه بعض الفقرات منها: موسيقى كلاسيكية تعزفها أركسترا، والرقص على أنغام الفالس والتانغو، وكان الفندق آنذاك المكان المفضل لنجوم ومشاهير والمجتمع من كل الطبقات. وكانوا يتهافتون للظهور فيه، أو عند دخولهم وخروجهم منه كملتقى للصفوة». ويتابع نصار: «آلت ملكيه المطعم إلى والدي نصار ومنذ ذاك الوقت ظل المكان المفضل لكبار رجال الدولة والوزراء والباشوات طوال القرن الماضي. فعندما كانت الوزارة تنتقل إلي الإسكندرية في فصل الصيف كان اجتماع الوزراء هنا في «أثينيوس». وقد كُتب في هذا المكان العديد من الروايات والأشعار التي خلّدت تاريخ الإسكندرية، فقد كان الشاعر اليوناني كافافيس أحد الرواد الدائمين للمكان، وكذلك الأديب نجيب محفوظ الذي اعتاد زيارة المكان وكتب فيه أهم رواياته. وحتى الآن يستقبل المكان أهم الشخصيات العربية والعالمية، ومنهم العالم الدكتور أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل، الذي زار المكان عام 2005، والتقيته وهو يتناول الإفطار مع أسرته. وقال لي يومذاك إنه حقق أمنيته التي كانت تراوده منذ كان طالبا في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، إذ كان يجلس في مواجهة المطعم على الكورنيش يتابع حركة رواد المطعم والمترددين عليه من أرقى الطبقات، وكان يتمنى أن يُمضي فيه بعض الوقت». أما عن نجيب محفوظ، فقد كان يحب الجلوس في مقاهي الإسكندرية ليتحسس نبض المدينة الكوزموبوليتانية، بخاصة في مقهى «أثينيوس» في مواجهه البحر. وهو الذي شهد مولد روايته الشهيرة «ميرامار» التي تحولت إلى فيلم سينمائي قامت ببطولته الفنانة شادية وجسدت دور «زهرة». وكان الأديب الكبير قد استوحاها من بنسيون مجاور للمقهى على كورنيش الإسكندرية، ما زال موجودا حتى الآن. وكانت صاحبته يونانية، وتعد الرواية سيرة ذاتية لها. ولقد تَحوّل البنسيون إلى «فندق فؤاد». والجدير بالذكر أن محفوظ كتب في روايته «ميرامار» مجسدا واقع الجاليات الأجنبية في بالإسكندرية، قائلا: «... واليوم فإن هؤلاء المنفيين من اليونانيين والأوروبيين الآخرين، قد رحلوا ولم يتركوا عظامهم في المدينة، ذهب أغلبهم إلى أوطانهم، وعلى أي حال فإن ماريانا اليونانية صاحبة بنسيون «ميرامار» تتكلم بلسان هؤلاء الذين ظلوا في المدينة». أيضا، كان من رواد «أثينيوس» البارزين الدكتور علي الجريتلي اقتصادي مصر العظيم، الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء في أول حكومة للثورة. وكان مقهاه ومطعمه ملتقى العائلات الشهيرة مثل زغيب وموصيري ونادلر وباسيلي وغيرهما. وما زالت الجاليات اليونانية والأرمنية والإيطالية تستعيد أروع ذكرياتها بين جدرانه، ويأتي إليه دائما أحفاد وأبناء العائلات الأجنبية التي كانت مقيمة في الإسكندرية في أثناء زيارتهم للمدينة. «أثينيوس» يستقبل زواره من التاسعة صباحا وحتى الثانية بعد منتصف الليل، وهو يكتظ بالسياح الذين يشكلون أغلب زبائنه حاليا، وهم يفضلون تناول الغداء أو العشاء فيه، أو بعشاق كورنيش الإسكندرية الساحر صيفا وشتاء، وهؤلاء يستمتعون بتدخين الشيشة بين نسيم البحر والذكريات الحارة التي تعلق بها رائحة المدينة التي لا تشيخ. ويقدم المطعم العتيق بعض الأطباق اليونانية والإيطالية كما اعتاد زبائنه على «الباستا» بفواكه البحر، ويشتهر أيضا ببصمته في المأكولات البحرية، ومن أشهر أطباقه: الدجاج المحشو بالسبانخ والريكوتا، والسوفلاكي والموساكا، وحساء الفطر على الطريقة الإيطالية، والمعكرونة بصلصة الألفريدو، والرافيولي واللازانيا، وكرات الأرز بالجبنة، إلى جانب الأطباق المصرية التقليدية والحلويات الشرقية والغربية، التي تفتح الشهية، على خلفية موسيقى تتجاوب في أصدائها الإيقاعات اليونانية والمصرية.
عالم «تريانون» يصيبك بالدهشة ويخلب الحواس، فالتصميم الأخاذ والديكورات البديعة التي تجمع بين الرونق الأوروبي ونقوش الخشب الشرقية والرسوم الرائعة لجوار شرقيات بريشة فنان إيطالي لا تزال محتفظة بألوانها الزاهية، والتي تخلق أجواء لا مثيل لها.
احد أقدم العاملين بـ« تريانون» المتر إمام، الذي يروى لنا حكاية «تريانون»، قائلا: «تريانون يوناني الأصل وتاريخه يعود لنحو 120 عاما، وقد اشتراه اليوناني يورغوس بيرليس مؤسس حلواني (بيتيت تريانون)، بعد ذلك اشتراه (جراند تريانو) مع عائلة قسطنطينيدس وأندريا دريكوس، وبدأوا في التوسع وفي السبعينات انفصل بيتيت وجراند تريانون، وتم تمصيره عام 1970، واشتراه مجموعة شركاء وهم: عائلة الحضري وجورج لوكا وسمير بولس». وأضاف: «أعمل هنا منذ عام 1981، وأتذكر بعض اليونانيين الذين كانوا يعملون بالمطعم كان أشهرهم اسمه كوستا وكان مسؤولا في المخازن، وياني في قسم الحلواني، والمتر ستاورو، وأليكو كان كاشيرا وهم من تعاملت معهم، وكنا نشرف على حفلات كثيرة مع رئيس الجالية اليونانية السابق بافيادس، وهو من أهم زبائن المحل».
يتابع إمام: «بمرور الوقت توسع تريانون وأصبح أشهر سلسلة مطاعم وحلويات في الإسكندرية والقاهرة، وامتدت فروعه من محطة الرمل وحتى العجمي ليقدم أكلات من المطبخ الفرنسي والإيطالي والصيني إلى جانب المأكولات الشرقية. وقد اشتهر تريانون بين كبريات العائلات بتقديمهم خدمات تجهيز الحفلات داخل وخارج الإسكندرية». شهرة تريانون ساهم فيها زبائنه أيضا، فقد كتب الأديب العالمي نجيب محفوظ فيه بعض سيناريوهات أفلامه، كما كان توفيق الحكيم من عشاقه وذكره في واحدة من أجمل السير الذاتية في الأدب العربي (سجن العمر)، كذلك كان من رواده الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر الراحل أمل دنقل.
ويحتفظ تريانون بتوقيعات رواده في عدد من المجلدات الأنيقة الخاصة بالزيارات وقادني الفضول للتعرف عليهم واستشراف ماضي المطعم العريق، فكان أهمهم: الملكة صوفيا ملكة إسبانيا ذات الأصل اليوناني، والأمير تركي بن عبد العزيز، والسيدة جيهان السادات، وفؤاد سراج الدين، والسير مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل وصفوت الشريف والمشير الجمصي وزير الدفاع إبان حرب 73، والأميرة فوزية والملكة ناريمان وأدهم النقيب زوج الملكة ناريمان. وكذلك كثير من الشخصيات البارزة والوزراء ونجوم السينما والتلفزيون، ومنهم: الفنان محمد أحمد المصري (أبو لمعة)، والفنانة يسرا وليلى علوي ولبلبة وأحمد زكي ومحمود مرسي وعباس فارس والفنان حمدي غيث الذي كتب: «لأول مرة أرتاد مطعم تريانون وسعدت بوجود هذا المستوى الرائع من الجمال بما لا يقل عن أعظم مستوى أوروبي».
بينما كتب كوستانتينو، وزير الداخلية اليوناني جملة معبرة عن سر عشق تريانون «دفء تريانون نابع من دفء الإسكندرانيين، وهذه الأجواء تعيدني بشدة إلى إسكندريتي الكوزموبوليتانية». ومن التوقيعات الطريفة توقيع إحدى الزبونات الإنجليزيات التي وقعت باسم الملكة إليزابيث في دعابة منها.
استقرت عيناي على البيانو العتيق بمظهره الآسر الذي يحتل ركنا يسيطر على قاعة الطعام بأكملها، تركني المتر إمام لأمارس هوايتي في العزف على أصابع ذلك البيانو الفرنسي الذي يعود إلى عام 1911، وأعيش تجربة ربما عاشها الكثيرون من رواد المطعم، وقال إمام مبتسما: «ابنه الرئيس السادات أيضا كانت تعشق العزف عليه كلما تناولت غداءها هنا».
قاعة الطعام تم إعادة تصميم ديكوراتها في عام 1987، لكن باقي جدران المطعم لا تزال محتفظة برونقها منذ 120 عاما، ويفخر إمام الذي يصطحب زبائنه في جولة ساحرة بين دهاليز تريانون، لافتا إلى أن كل قطعة أثاث في المطعم تعتبر من الأنتيكات الثمينة. أما القسم الثاني من تريانون فهو قسم الحلواني وهو يعج بأنواع الشوكولاته والحلويات ذات الأغلفة البراقة. ويتباهى المتر إمام - المعروف بوجاهته - بصورته التذكارية مع سيدة مصر الأولى السيدة سوزان مبارك، ومعه بعض من العاملين في تريانون، حيث قدموا خدماتهم في أكثر من مناسبة رسمية.
يعلو المطعم فندق «متروبول» العريق، وكان قبل ذلك مبنى وزارة الري، التي كان يعمل بها الشاعر اليوناني الشهير كفافيس، لكن المتر إمام ليس على يقين تام من أن كفافيس كان أحد رواد المكان لكنه يذكر جيدا الأديب اليوناني موسكوف الذي كان يعشق الكتابة في أحضان تريانون، بل إن أحد المواقف الطريفة التي لم ينسها إمام، حينما كتب موسكوف شيكا باليونانية لسداد ثمن غدائه في المطعم ونسي أن يكتب المبلغ، وسافر إلى القاهرة، فصعد المحاسب لصاحب فندق «متروبول»، يسأل عن عنوانه وهاتفه بالقاهرة، وكلمه أحد العاملين بـ«تريانون» في ذلك الوقت باليونانية، حيث كان جميع العاملين يتحدثون اليونانية بطلاقة، وجاء من القاهرة مخصوصا لكي يتحدث إليه ويعرف منه كيف كان يتحدث اليونانية بهذا الشكل! ونظرا لأصله اليوناني، يعتبر تريانون قبلة اليونانيين في الإسكندرية حيث تتوافد عليه أفواج من اليونانيين المصريين الذين ارتبطوا بذكريات في الإسكندرية ويقومون بالتقاط صور تذكارية بالمكان، ويقول إمام: «لي صديقة يونانية تأتي سنويا لزيارة الإسكندرية مع زوجها وهي تدعوني باستمرار لزيارة اليونان ومطعم الأسماك الذي تملكه، وبيننا علاقة إنسانية جميلة، وتتناول غداءها هنا يوميا». ويضيف المتر: «اليونانيون يحبون أصناف معينة عندنا ومنها: جبنة ريكوتا بالعسل وبلح الشوكولاته، والسلطة اليوناني (سيزار سالاد)، وأومليت بالبقدونس».
وأيضا تريانون اختيار عشاق الطعام الفرنسي، فهو يقدم الكوكتيلات وأصناف المأكولات البحرية، بل ابتكر صنفا جديدا وهو تقديم الجمبري بالكنافة والذي يقدم مع صوص حار، هذا فضلا عن الميكس غريل، والدجاج على الطريقة الصينية، والنودلز، هذا إلى جانب الشركسية أو الأوزي.
يبدأ تريانون في العمل من السابعة صباحا وحتى الواحدة صباحا، ولديه 5 فروع إلا أن أعرقها محل محطة الرمل، ويؤكد إمام: «أهم ما يميز تريانون هو احتفاظه بطابعه الكلاسيكي وتقديم منتجات جيدة وخدمة عالية المستوى، مما جعلنا محل ثقة للإشراف وإعداد المأكولات والمشروبات في حفل افتتاح مكتبة الإسكندرية مع ملوك وأمراء ورؤساء العالم». ويضيف: «عمري مع تريانون 30 سنة خدمت فيها ملك وملكة النرويج وولية العهد السويدية، والوزراء المصريين وأقمنا حلويات لكل مناسبات المراكز الثقافية الأجنبية.. وزمان إسكندرية لم يكن بها سوى تريانون وديليس وأثينيوس». ويؤكد إمام مكانه تريانون بين الوجهات السياحية في الإسكندرية إلا أنه يرى بوضوح انخفاض النشاط السياحي في المدينة، معللا ذلك بالظروف العالمية وعدم الاستقرار الاقتصادي.
ويحتضن «تريانون» اجتماعات ولقاءات نادي روتاري كوزموبوليتان، ومتروبوليتان، وصن رايز، وسيدات الروتاري. أما رواد المكان فمن جميع الجنسيات لذا يسعى لتلبيه كافة رغباتهم من جميع الأصناف والمأكولات. ويروي إمام مواقف طريفة صادفها مع الزبائن: «مرة في المساء جاءني مصري يعيش في ألمانيا منذ 24 سنة ونفسه يأكل فلفلا مقليا وباذنجانا بالخل والثوم وملوخية، وعملت له ملوخية بالأرانب والسلطة البلدي وكان في قمة السعادة ومنذ ذلك اليوم وهو يأتي من المطار على تريانون».
- فندق وحلوانى اثينيوس
أجواء «أثينية» على كورنيش الإسكندرية، في ثاني كبرى مدن مصر وثغرها الرئيس، يمنحها فندق «أثينيوس» للزائر ويمكّنه من متابعة حركة المارة على الكورنيش ولقاءات المحبين يحفها نسيم الأمواج العليل التي لم تنقطع يوما منذ شيّد الإسكندر المدينة عام 331 ق.م.
يتميز «أثينيوس» القابع في محطة الرمل الشهيرة، بديكوراته وأنتيكاته العتيقة المفعمة بروح الأساطير اليونانية وعبقها، يعززها طرازه المعماري الأوروبي المنفَّذ على يد أشهر المعماريين الإيطاليين والفرنسيين.
في تراث «مدينة الإسكندر» يعد «أثينيوس» أحد أهم العلامات الباقية الحارسة لعراقة ماضيها، وامتداده في الزمان والمكان. إذ يلجأ إليه كل من ينتابه حنين مدينة الذكريات، وهو ما زال محتفظا بتصميماته وديكوراته التي تعطي إحساسا بالفخامة والأرستقراطية، تطالعك حين تتأمل مجموعة من الصور التاريخية للإسكندرية، في كل ركن منه، ومنها صور لميدان محطة الرمل والمنشية تعود إلى القرن الماضي، وصور لأسرة محمد علي وملوكها وأمرائها وأميراتها، مما يجعل الزائر له يشعر كأنه في متحف توثيقي للمدينة.
يعقوب أحمد نصار، صاحب مطعم وحلواني «أثينيوس»، يقول: «إن كلمة (أثينيوس) تعني باللغة اللاتينية (الأثيني)، وكان صاحبه يونانيا اسمه كوستانتينوس أثينيوس، وقد امتلك المكان عام 1900 بعدما حصل عليه من تاجر يهودي إيطالي، وظل يديره حتى أواخر عام 1954. وعندما توُفّي تولت زوجته كاتينا إدارة المطعم حتى عام 1969، وقد أدخلت إليه بعض الفقرات منها: موسيقى كلاسيكية تعزفها أركسترا، والرقص على أنغام الفالس والتانغو، وكان الفندق آنذاك المكان المفضل لنجوم ومشاهير والمجتمع من كل الطبقات. وكانوا يتهافتون للظهور فيه، أو عند دخولهم وخروجهم منه كملتقى للصفوة». ويتابع نصار: «آلت ملكيه المطعم إلى والدي نصار ومنذ ذاك الوقت ظل المكان المفضل لكبار رجال الدولة والوزراء والباشوات طوال القرن الماضي. فعندما كانت الوزارة تنتقل إلي الإسكندرية في فصل الصيف كان اجتماع الوزراء هنا في «أثينيوس». وقد كُتب في هذا المكان العديد من الروايات والأشعار التي خلّدت تاريخ الإسكندرية، فقد كان الشاعر اليوناني كافافيس أحد الرواد الدائمين للمكان، وكذلك الأديب نجيب محفوظ الذي اعتاد زيارة المكان وكتب فيه أهم رواياته. وحتى الآن يستقبل المكان أهم الشخصيات العربية والعالمية، ومنهم العالم الدكتور أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل، الذي زار المكان عام 2005، والتقيته وهو يتناول الإفطار مع أسرته. وقال لي يومذاك إنه حقق أمنيته التي كانت تراوده منذ كان طالبا في كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، إذ كان يجلس في مواجهة المطعم على الكورنيش يتابع حركة رواد المطعم والمترددين عليه من أرقى الطبقات، وكان يتمنى أن يُمضي فيه بعض الوقت». أما عن نجيب محفوظ، فقد كان يحب الجلوس في مقاهي الإسكندرية ليتحسس نبض المدينة الكوزموبوليتانية، بخاصة في مقهى «أثينيوس» في مواجهه البحر. وهو الذي شهد مولد روايته الشهيرة «ميرامار» التي تحولت إلى فيلم سينمائي قامت ببطولته الفنانة شادية وجسدت دور «زهرة». وكان الأديب الكبير قد استوحاها من بنسيون مجاور للمقهى على كورنيش الإسكندرية، ما زال موجودا حتى الآن. وكانت صاحبته يونانية، وتعد الرواية سيرة ذاتية لها. ولقد تَحوّل البنسيون إلى «فندق فؤاد». والجدير بالذكر أن محفوظ كتب في روايته «ميرامار» مجسدا واقع الجاليات الأجنبية في بالإسكندرية، قائلا: «... واليوم فإن هؤلاء المنفيين من اليونانيين والأوروبيين الآخرين، قد رحلوا ولم يتركوا عظامهم في المدينة، ذهب أغلبهم إلى أوطانهم، وعلى أي حال فإن ماريانا اليونانية صاحبة بنسيون «ميرامار» تتكلم بلسان هؤلاء الذين ظلوا في المدينة». أيضا، كان من رواد «أثينيوس» البارزين الدكتور علي الجريتلي اقتصادي مصر العظيم، الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء في أول حكومة للثورة. وكان مقهاه ومطعمه ملتقى العائلات الشهيرة مثل زغيب وموصيري ونادلر وباسيلي وغيرهما. وما زالت الجاليات اليونانية والأرمنية والإيطالية تستعيد أروع ذكرياتها بين جدرانه، ويأتي إليه دائما أحفاد وأبناء العائلات الأجنبية التي كانت مقيمة في الإسكندرية في أثناء زيارتهم للمدينة. «أثينيوس» يستقبل زواره من التاسعة صباحا وحتى الثانية بعد منتصف الليل، وهو يكتظ بالسياح الذين يشكلون أغلب زبائنه حاليا، وهم يفضلون تناول الغداء أو العشاء فيه، أو بعشاق كورنيش الإسكندرية الساحر صيفا وشتاء، وهؤلاء يستمتعون بتدخين الشيشة بين نسيم البحر والذكريات الحارة التي تعلق بها رائحة المدينة التي لا تشيخ. ويقدم المطعم العتيق بعض الأطباق اليونانية والإيطالية كما اعتاد زبائنه على «الباستا» بفواكه البحر، ويشتهر أيضا ببصمته في المأكولات البحرية، ومن أشهر أطباقه: الدجاج المحشو بالسبانخ والريكوتا، والسوفلاكي والموساكا، وحساء الفطر على الطريقة الإيطالية، والمعكرونة بصلصة الألفريدو، والرافيولي واللازانيا، وكرات الأرز بالجبنة، إلى جانب الأطباق المصرية التقليدية والحلويات الشرقية والغربية، التي تفتح الشهية، على خلفية موسيقى تتجاوب في أصدائها الإيقاعات اليونانية والمصرية.