لغات النقوش العربية الشمالية وصلتها باللغة العربية(*)
للأستاذ الدكتور مراد كامل
للأستاذ الدكتور مراد كامل
هاجرت قبائل من الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل الميلاد واستقرت فيما بين النهرين وهم الأكديون، وهاجرت منها قبائل في الألف الثالث قبل الميلاد واتجهت إلى الشمال الغربي من شبه الجزيرة وهم الكنعانيون، وفي الألف الثاني هاجرت قبائل إلى شمال الجزيرة هم الآراميون. وبقي من بقي في الجزيرة، يسكن الواحات ويحترف الزراعة حينًا والتجارة حينًا، أو يقوم على رعاية الإبل والماشية في البادية.
وقل اختلاط هؤلاء بالشعوب المجاورة فحافظوا على سلامة جنسهم ولغتهم.
واحتفظت لغات شبه الجزيرة بالأصوات التي كانت في اللغة السامية الأصلية مع بعض تطورات طفيفة، واحتفظت كذلك بالإعراب على مثال ما نجده في البابلية القديمة، واحتفظت بالصيغ الفعلية كما كانت في السامية الأصلية.
وطوّعوا اشتقاق المفردات حتى سدت جميع النواحي التي احتاج إليها الناس في حياتهم البدوية، ولم يدخل العربية إلا القليل من الألفاظ الأجنبية، أخذها أهل الحضر منهم ممن تاخموا البلاد الواقعة في شمال الجزيرة – أخذوا بعض ألفاظ الحضارة من الآراميين، وأخذوا من الرومان قصر Castra وبلد Palatium وسراط Strata وهي من ألفاظ الجيش، كما أخذوا القليل من الألفاظ الفارسية القديمة مثل رزق وأنبار وخندق .
إن تاريخ لغات شمال شبه الجزيرة العربية غامض لا نكاد نعرف عنه شيئًا إلا ما روي من الشعر الجاهلي في اللغة العربية، مع كثير من التحفظ. والواقع أن معرفتنا لتاريخ اللغة العربية التي يعتبرها علماء اللغة من أكثر اللغات المحافظة على أصلها البعيد، سيفيد في دراستنا لفقه اللغات السامية بخاصة وفي فقه اللغة بعامة، وقد هيأت الظروف
ــــــــــــــــ
(*) مؤتمر الدورة الثامنة والعشرين، الجلسة السادسة في 20 من مارس سنة 1962 .
منذ أواخر القرن الماضي العثور على آلاف النقوش مبعثرة في شمال الجزيرة العربية في المنطقة الواسعة الممتدة من وسط الجزيرة إلى الصفاة في الشرق والجنوب من حوران. وأخذ العلماء في معالجتها وحل رموزها وفهمها حتى توصلوا إلى ذلك في الربع الثاني من القرن الحالي.
اشتقت هذه النقوش قلمها من الخط المسند في اليمن واحتفظت بالأصوات العربية عددًا أي بثمانية وعشرين حرفًا، وليس للحركات في هذا الخط من نصيب فهي لم تثبت لها علامات .
وكنا نتوقع أن نجد في هذه الكثرة من النقوش مادة كافية لتاريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ولكن للأسف لم تعالج هذه النقوش إلا موضوعات قليلة غير منوعة، فهي لذلك لا تحمل إلينا مادة لغوية كاملة وبالتالي فإننا لا نفيد منها إلا بمقدار . وكان هذا هو السبب في أننا لا نعتبرها لغات متكاملة بل لغات نقوش ينقصها الكثير من الصيغ والتراكيب .
ودراستها على كل حال واجبة على من أراد الوقوف على أصول العربية وتاريخها ، وتنقسم هذه النقوش إلى ثلاث مجموعات:
1- أقدمها المجموعة التي نسميها الثمودية وقد عثر على كتاباتها في حايل وعلى مقربة من الوجه وفي الطائف وتيماء ومدائن صالح (الحجر) والعلا (ددان القديمة) وخيبر والجوف ونجد ومدين القديمة وفي شرقي الأردن وفي شبه جزيرة سيناء وفي الصحراء الشرقية بمصر أي على الأكثر في المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة .
وقد ورد اسم الثموديين في نقوش الملك سرجون الأشوري سنة 715 ق . م. ( 721 – 705 ق .م ) وجاء ذكرهم بين الشعوب التي أخضعها هذا الملك في شمال شبه الجزيرة العربية، وعرفوا في العصر الروماني بأنهم فرسان مهرة وكانت منهم كتيبة في مصر . ويرجع تاريخ النقوش الثمودية التي عثر عليها من القرن الخامس قبل الميلاد وتنتهي بالرابع بعد الميلاد.
2- المجموعة الثانية هي التي تعرف بالصفوية وسميت بذلك لوجودها في منطقة الصفاة منقوشة أو مخربشة على حجارة اللابا ( اللافا ) في الحرّة في جنوب شرق دمشق ووجدت أيضًا في حوران وفي الرحبة وفي حرة الراجل وفي شمال سورية وفي الصالحية على الفرات .
وكان الصفويون وهم رعاة فقراء يسكنون أرضًا جدباء، وكان الحكم عندهم شورى. هذا ويرجح أن أقدم الكتابات الصفوية من القرن الثاني قبل الميلاد وتنتهي بالثالث بعد الميلاد.
3- المجموعات اللحيانية: عثر على النقوش اللحيانية في شمالي الحجاز وفي مدائن صالح ( الحجر ) وفي الخريبة – والعلا ( ددان ) - وتلعة الحمّادي – وجبل أثلب – وخشم جبلة وتيماء – وقبور الجندي – ووادي المعتدل .
عرفت العلا وهي ( ددان ) التي ورد اسمها في العهد القديم: بغزارة مياهها ووقوعها على الطريق التجاري وهو الطريق الذي كان يصل بلاد العرب الجنوبية ببلاد البحر الأبيض، وتحمل فيه أنواع البخور والبضائع التي كانت تصل من الهند وإفريقية عن طريق اليمن جنوبًا إلى الشمال، وكانت العلا تقع وسطًا عند ملتقى الطرق: طريق الحجر شمالاً والطريق إلى الحرة شرقًا وإلى الغرب والطريق الذي يتبع وادي الحمد إلى شاطئ البحر الأحمر حتى الميناء الذي عرف عند اليونان باسم ليكوكومي والطريق إلى ميناء الوجه، وكان يسكن العلا قديمًا مهاجرون من أهل اليمن المعينيين وأهل ددان ثم اللحيانيين .
وتبدأ الكتابات من القرن الرابع قبل الميلاد وتنتهي بالقرن الرابع بعد الميلاد، وظهرت مملكة ددان في القرن الثالث قبل الميلاد وتلتها مملكة لحيان، ويظهر أن قبائل لحيان كانت تسكن الشاطئ أصلاً وعلى صلة بالحضارة المصرية ويتبين ذلك من أسمائهم مثل تحمىPtahmay تلميPtolemaios وقد اتسعت رقعة مملكتهم حتى احتل النبطيون الحجر سنة 65 ق . م وكذلك تيمـاء وليكوكومي واقتصرت المملكة بذلك
على الداخل دون الشاطئ وانتهى احتلال النبط لهم سنة 106 ميلادية .
ولم يمض وقت طويل حتى اجتاح زلزال مدينة ددان فدمرها وأخذ أهلها في إعادة بناء المعبد، ونحن نعرف من النقوش أن مدة إعادة البناء قد امتدت حوالي ثلاثين سنة، وقل الأمان وظهرت وظيفة جديدة هي وظيفة " خفير " لحماية القوافل .
وفي أوائل القرن الرابع الميلادي نجد أن اليهود سكنوا ددان، ويظهر أن اللحيانيين تركوا المدينة وأصبحوا بدوًا وهاجر تجارهم إلى الحيرة التي أنشئت في أوائل القرن الثالث الميلادي غربي الفرات، ونعرف أن في القرن الرابع الميلادي كان بالحيرة حيٌّ يسمى حي اللحيانيين، كما التحقت بطون من لحيان بهذيل .
والنقوش اللحيانية أكثر تنوعًا في موضوعاتها من الثمودية والصفوية؛ ولهذا فإن المادة اللغوية فيها أكثر من المادة اللغوية في المجموعتين.
1- أما الثمودية فلا تكتب حروف اللين ( أوى ) وكذلك الحركات المركبة سقطت في الخط مما يدل على أن أو au أصبحت Õ وأي ai أصبحت é فأوس كتبت أس وأودد كتبت أدد وأذينة كتبت أذنة وأويس كتبت أوس . وثبتت في الخط ياء النسبة كما ثبتت في أخّى وخى .
وكتبت تاء التأنيث بالتاء لا بالهاء .
الضمائر المنفصلة وردت أنا ( أنَ ana ) وأنتِ ( أتّ atti ) والمتصلة تطابق العربية. كما ورد ذو ( ذ ) بمعنى الذي من كذا .
وذا للإشارة وذان للمذكر (هذا) وذين للمؤنث (هذه) ويلاحظ أن اللهجة العربية بمالطة بها = dana, dan, da هذا وللمؤنث هذه din, dina ولا تفرق الثمودية ذا بدون النون وذان بالنون في الاستعمال وهي في ذلك مثل الحبشية القديمة.
وبها أداة التعريف هــــا.
وللموصول ذو الطائية .
الأفعال: وردت أفعال كثيرة على صيغة فعل مثل علم وحل وبات ورعى ورهب وروم ( أى رام ) وبان وكتم وودد وعشق وتوى ( أى هلك ) وزيل ( أي تشتت ) وحيد ( أي حاد = ابتعد ) وبنّ ( أي مكث ) وطحّ ( أي ضرب أو تتبع ) وكلم ( أي جرح ) ونوى ( أي هاجر ) وقام ( أي أوقف بمعنى قاوم ) وقعم ( أي أصابه مرض مميت ) وراع أو ريع ( أي عاد أو رجع ) وقد وردت في الحديث .
وورد للمجهول صيغة فُعِلَ مثل قُنِص وصِيد .
واسم الفاعل على وزن فاعل مثل عاشق .
وردت صيغة فعّل مثل خطط ( أي كتب ) ودمّي ( أي رسم ) وشوّر ( أي ألهب النار ) ورمّع ( أي أسرع الخطى ) وضئل في الأمر ( أي قلل ) وحصى الأمر ( أي أحرس ).
وصيغة فاعل مثل ساعد .
ووردت صيغة أفعل مثل أبتر .
واسم الفاعل منه مثل محب .
ووردت صيغة تفعّل مثل تشوق أى اشتاق .
الحروف: وردت إلى والباء وفي ومن اللام ووردت اللام في الصفوية مع ما أي لم ( نم ) وهي صيغة متشابهة بما نجده في العربية في مثل الكاف وكما، ويظهر أن ( لم ) كانت تستعمل في لهجة ( ونم ) في لهجة أخرى، ومن المؤكد أن ( نم ) نشأت عن لم، وقلب اللام نونًا في الحروف معروف في اللغة المصرية القديمة وفي اللغة ( التيجرينيا ) في الحبشة .
الظرف: وردت بذا ( بذ ) أي هنا، وهذه الصيغة معروفة في الحبشة القديمة أيضًا ( bazé ) ووردت هنا ( هن ) .
العطف: وردت الواو والفاء كما في العربية.
النداء: وردت الهاء للنداء .
لام الأمر: وردت اللام في الاستعمال مثل لام الأمر في العربية .
المفردات:
نجد أن معظم الألفاظ التي وردت في الثمودية معروفة بمعناها ووزنها في اللغة العربية مثل جمل وناقة وفرس ووعل وفلان وفلانة وآل وإلاه وأمير وأسد وأتاز وبأس ( أي بؤس ) وذئبة وذكر وذعر وحزم وظلم ونصر ونقم وسلامة وسعادة وسقم وسرور وصيد وخرّ وقر ورشم ( أي كتابة ) وأيد ( أي قوة ) ولوم ولطيم ( أي يتم ) وليل ومرتع وست ( أي 6 ) وقين ( أي عبد ).
ومن أسماء الأعلام :
أحمد وبدر وجشم ووائل وزيد وحلم وطاهرة وظريف وكلب ولبيد ومذكور ومطر ومكين ومالك وحصن ومر ومروان ونمر ونعم ونوفل وسعد اللـه وفجيع وفليط وفالطة وصمدع وصراخ وضيف وضفران وقنفذ وقيس وقسيس وقرد وربيبة ورهين وراشي ورقاش ورشد ( أورشاد ) وشهر وتيم وتميم وثعبان وأمين وأنوح وذميم وزيت .
وشذت بعض ألفاظ مثل ماء كتبت مي وابن كتبت باء فقط، ووردت كلمات قليلة لم نجدها في العربية مثل طروس أي كلب الصيد وسنا أي سلام ( وهي بهذا المعنى في العربية الجنوبية )
2- الصفوية:
المعبودات: أهمها اللات ( أي الإلاهة ) واللاه ورضو ( رضا ) وهو إله نجمة الصباح ( الزهري ) وشمس وذو الشري وشيع القوم أي حامي القوم ( وكان أتباعه لا يشربون الخمر ) ومنهم حد عويذ وهو معبود الحظ عند قبيلة عويذ بحوران وكذلك الإله رحام أو رحام وأوس وسعد ونهار .
واللغة الصفوية هي لهجة عربية شمالية، ووجه الاختلاف فيها عن اللغة العربية أن أداة التعريف فيها هي الهاء، وبها بعض تأثيرات آرامية في المفردات وأسماء الأعلام والآلهة وذلك لصلتهم بالآراميين .
وقد ورد في الصفوية استعمال المنصوب في حالة النداء والمفعول المكاني والحال مثل " فهلاّت سلاما " وقد دل على ذلك وجود النص اليوناني في حالة النصب إلى جانب الصفوي، " ووجم على أبيه وعلى أخيه ترحًا " أي فألقى حجرًا على قبر أبيه وأخيه وهو حزين .
ولم تحتفظ الصفوية بالتنوين مثل العربية الشمالية ولا بالتمييم مثل العربية الجنوبية والدليل على ذلك أنها لم تثبتها في الكتابة .
المفردات:
كلمة أثر وسفر أخذت معنى الكتابة، ونلاحظ أنه في شعر الهذليين كلمة " آية " جاءت بمعنى كتابة .
كلمة جواي وادي ( وردت بمعنى المنخفض في نقائض جرير والفرزدق ومنها الجواء في معلقة عنترة ) .
دار بمعنى خيام العشرة أو منازلها ( وردت في معلقة زهير بهذا المعنى ).
ها: للنداء وهي هاء التنبيه في العربية والتي نجدها في يا أيها .
ذا للإشارة وذو للموصول .
والواو والفاء للعطف، وقد وردت الفاء أيضًا للاستئناف، واللام للملكية وللمفعولية .
ومن ومن والميم ( بمعنى من ) وعلى .
الأفعال:
نجد من الأفعال نجى ونفر ( بمعنى هرب ) ونظر وندم ( بمعنى الندم أو التكدر وبمعنى الأسف أيضًا ) وتشوق ( أي اشتاق ) .
ووجم على ( أي ألقى بحجر على قبر ) وقد اشتقت الصفوية الفعل من الوجم وهي الحجارة المرقومة، وكان العرب في الجاهلية يضعون الحجارة على قبور من مات منهم أو قتل، وإذا مر العرب على تلك القبور وضعوا حجرًا أو أحجارًا عليها، وظلت تلك الأوجام يهتدي بها العرب في الصحراء إلى ما بعد الإسلام، ولا تزال هذه العادة شائعة في بعض البلاد العربية .
حرص ( أي تطلع ) وكلم ( أي جرح ) ولعن ومرق ( أي مر ) ونجع ( أي اشتقاق ) ونهل ( أي أطفأ ظمأه ) ونعم وسأر ( أي ترك ) وسمع وساعد وسار ( أي سافر ) عور ( أي عمي أو محا : قارن العامية المصرية عوّر ) وغنط ( وقع في محنة ) وغنم وفلط ( أي أنقذ ) وفصى ( أي خلص ) وفرج ( أي عزى ) وقتل وراح ( أي ذهب ) ورعى ( أي رعى أو حرس ) وشتى ( أي استقر في الشتاء . أو شتّى ) وثأر وخبل ( أي أتلف ) .
واشتقت الصفوية من المضعف وزن أفعل بفك التضعيف.مثل أبلل (من بل ) وأبرر ( من بر ) وأجمم ( من جم ) ، وهذا الاشتقاق شائع في اللهجات العربية الآن مثل فلسطين ومصر ومالطة .
وقد تدغم النون في الفعل أحيانًا مثل: واتظر أي وانتظر .
أما الجمع فقد ورد جمع المذكر السالم في الصفوية بالنون مثل: ضالون أو ضالين، كما وردت أوزان جمع التكسير مثل أشياع وأسفار وألسنة ومهالك .
ومن المفردات :
فرس – ضأن - ضال – خيل – خال – خمسة – كبير – لهبة (أي ظمأ ملهب) – ملك – معزى ( أي ماعز ) – نخل ( أي وادي ) – نعم ( من نعمة ومعناها النعمة أو القطيع) – نقأة ( أي دفعة ) – نقمة ( أي ثأر ) – سلام – سمي ( أي سماء ) – سنة – سيف – سطر (أي أثر أو كتابة) – سقم (بمعنى مرض) – عبد – عور (أي عمى) – عرج – عشرة – غيرة ( أي مساعدة ) – ضيف – قبلان ( أي الحول ) – رواح ( أي
هدوء ) – شنأ ( أي عدو أو شانئ ) – ترح ( أي حزن ) – ثلج – ثمان .
وللقبر أسماء عدة في الصفوية منها: قبر – ضريح – نفسة – مقيل – نية .
ومن أسماء الأعلام:
وقل اختلاط هؤلاء بالشعوب المجاورة فحافظوا على سلامة جنسهم ولغتهم.
واحتفظت لغات شبه الجزيرة بالأصوات التي كانت في اللغة السامية الأصلية مع بعض تطورات طفيفة، واحتفظت كذلك بالإعراب على مثال ما نجده في البابلية القديمة، واحتفظت بالصيغ الفعلية كما كانت في السامية الأصلية.
وطوّعوا اشتقاق المفردات حتى سدت جميع النواحي التي احتاج إليها الناس في حياتهم البدوية، ولم يدخل العربية إلا القليل من الألفاظ الأجنبية، أخذها أهل الحضر منهم ممن تاخموا البلاد الواقعة في شمال الجزيرة – أخذوا بعض ألفاظ الحضارة من الآراميين، وأخذوا من الرومان قصر Castra وبلد Palatium وسراط Strata وهي من ألفاظ الجيش، كما أخذوا القليل من الألفاظ الفارسية القديمة مثل رزق وأنبار وخندق .
إن تاريخ لغات شمال شبه الجزيرة العربية غامض لا نكاد نعرف عنه شيئًا إلا ما روي من الشعر الجاهلي في اللغة العربية، مع كثير من التحفظ. والواقع أن معرفتنا لتاريخ اللغة العربية التي يعتبرها علماء اللغة من أكثر اللغات المحافظة على أصلها البعيد، سيفيد في دراستنا لفقه اللغات السامية بخاصة وفي فقه اللغة بعامة، وقد هيأت الظروف
ــــــــــــــــ
(*) مؤتمر الدورة الثامنة والعشرين، الجلسة السادسة في 20 من مارس سنة 1962 .
منذ أواخر القرن الماضي العثور على آلاف النقوش مبعثرة في شمال الجزيرة العربية في المنطقة الواسعة الممتدة من وسط الجزيرة إلى الصفاة في الشرق والجنوب من حوران. وأخذ العلماء في معالجتها وحل رموزها وفهمها حتى توصلوا إلى ذلك في الربع الثاني من القرن الحالي.
اشتقت هذه النقوش قلمها من الخط المسند في اليمن واحتفظت بالأصوات العربية عددًا أي بثمانية وعشرين حرفًا، وليس للحركات في هذا الخط من نصيب فهي لم تثبت لها علامات .
وكنا نتوقع أن نجد في هذه الكثرة من النقوش مادة كافية لتاريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ولكن للأسف لم تعالج هذه النقوش إلا موضوعات قليلة غير منوعة، فهي لذلك لا تحمل إلينا مادة لغوية كاملة وبالتالي فإننا لا نفيد منها إلا بمقدار . وكان هذا هو السبب في أننا لا نعتبرها لغات متكاملة بل لغات نقوش ينقصها الكثير من الصيغ والتراكيب .
ودراستها على كل حال واجبة على من أراد الوقوف على أصول العربية وتاريخها ، وتنقسم هذه النقوش إلى ثلاث مجموعات:
1- أقدمها المجموعة التي نسميها الثمودية وقد عثر على كتاباتها في حايل وعلى مقربة من الوجه وفي الطائف وتيماء ومدائن صالح (الحجر) والعلا (ددان القديمة) وخيبر والجوف ونجد ومدين القديمة وفي شرقي الأردن وفي شبه جزيرة سيناء وفي الصحراء الشرقية بمصر أي على الأكثر في المنطقة الشمالية الغربية من شبه الجزيرة .
وقد ورد اسم الثموديين في نقوش الملك سرجون الأشوري سنة 715 ق . م. ( 721 – 705 ق .م ) وجاء ذكرهم بين الشعوب التي أخضعها هذا الملك في شمال شبه الجزيرة العربية، وعرفوا في العصر الروماني بأنهم فرسان مهرة وكانت منهم كتيبة في مصر . ويرجع تاريخ النقوش الثمودية التي عثر عليها من القرن الخامس قبل الميلاد وتنتهي بالرابع بعد الميلاد.
2- المجموعة الثانية هي التي تعرف بالصفوية وسميت بذلك لوجودها في منطقة الصفاة منقوشة أو مخربشة على حجارة اللابا ( اللافا ) في الحرّة في جنوب شرق دمشق ووجدت أيضًا في حوران وفي الرحبة وفي حرة الراجل وفي شمال سورية وفي الصالحية على الفرات .
وكان الصفويون وهم رعاة فقراء يسكنون أرضًا جدباء، وكان الحكم عندهم شورى. هذا ويرجح أن أقدم الكتابات الصفوية من القرن الثاني قبل الميلاد وتنتهي بالثالث بعد الميلاد.
3- المجموعات اللحيانية: عثر على النقوش اللحيانية في شمالي الحجاز وفي مدائن صالح ( الحجر ) وفي الخريبة – والعلا ( ددان ) - وتلعة الحمّادي – وجبل أثلب – وخشم جبلة وتيماء – وقبور الجندي – ووادي المعتدل .
عرفت العلا وهي ( ددان ) التي ورد اسمها في العهد القديم: بغزارة مياهها ووقوعها على الطريق التجاري وهو الطريق الذي كان يصل بلاد العرب الجنوبية ببلاد البحر الأبيض، وتحمل فيه أنواع البخور والبضائع التي كانت تصل من الهند وإفريقية عن طريق اليمن جنوبًا إلى الشمال، وكانت العلا تقع وسطًا عند ملتقى الطرق: طريق الحجر شمالاً والطريق إلى الحرة شرقًا وإلى الغرب والطريق الذي يتبع وادي الحمد إلى شاطئ البحر الأحمر حتى الميناء الذي عرف عند اليونان باسم ليكوكومي والطريق إلى ميناء الوجه، وكان يسكن العلا قديمًا مهاجرون من أهل اليمن المعينيين وأهل ددان ثم اللحيانيين .
وتبدأ الكتابات من القرن الرابع قبل الميلاد وتنتهي بالقرن الرابع بعد الميلاد، وظهرت مملكة ددان في القرن الثالث قبل الميلاد وتلتها مملكة لحيان، ويظهر أن قبائل لحيان كانت تسكن الشاطئ أصلاً وعلى صلة بالحضارة المصرية ويتبين ذلك من أسمائهم مثل تحمىPtahmay تلميPtolemaios وقد اتسعت رقعة مملكتهم حتى احتل النبطيون الحجر سنة 65 ق . م وكذلك تيمـاء وليكوكومي واقتصرت المملكة بذلك
على الداخل دون الشاطئ وانتهى احتلال النبط لهم سنة 106 ميلادية .
ولم يمض وقت طويل حتى اجتاح زلزال مدينة ددان فدمرها وأخذ أهلها في إعادة بناء المعبد، ونحن نعرف من النقوش أن مدة إعادة البناء قد امتدت حوالي ثلاثين سنة، وقل الأمان وظهرت وظيفة جديدة هي وظيفة " خفير " لحماية القوافل .
وفي أوائل القرن الرابع الميلادي نجد أن اليهود سكنوا ددان، ويظهر أن اللحيانيين تركوا المدينة وأصبحوا بدوًا وهاجر تجارهم إلى الحيرة التي أنشئت في أوائل القرن الثالث الميلادي غربي الفرات، ونعرف أن في القرن الرابع الميلادي كان بالحيرة حيٌّ يسمى حي اللحيانيين، كما التحقت بطون من لحيان بهذيل .
والنقوش اللحيانية أكثر تنوعًا في موضوعاتها من الثمودية والصفوية؛ ولهذا فإن المادة اللغوية فيها أكثر من المادة اللغوية في المجموعتين.
1- أما الثمودية فلا تكتب حروف اللين ( أوى ) وكذلك الحركات المركبة سقطت في الخط مما يدل على أن أو au أصبحت Õ وأي ai أصبحت é فأوس كتبت أس وأودد كتبت أدد وأذينة كتبت أذنة وأويس كتبت أوس . وثبتت في الخط ياء النسبة كما ثبتت في أخّى وخى .
وكتبت تاء التأنيث بالتاء لا بالهاء .
الضمائر المنفصلة وردت أنا ( أنَ ana ) وأنتِ ( أتّ atti ) والمتصلة تطابق العربية. كما ورد ذو ( ذ ) بمعنى الذي من كذا .
وذا للإشارة وذان للمذكر (هذا) وذين للمؤنث (هذه) ويلاحظ أن اللهجة العربية بمالطة بها = dana, dan, da هذا وللمؤنث هذه din, dina ولا تفرق الثمودية ذا بدون النون وذان بالنون في الاستعمال وهي في ذلك مثل الحبشية القديمة.
وبها أداة التعريف هــــا.
وللموصول ذو الطائية .
الأفعال: وردت أفعال كثيرة على صيغة فعل مثل علم وحل وبات ورعى ورهب وروم ( أى رام ) وبان وكتم وودد وعشق وتوى ( أى هلك ) وزيل ( أي تشتت ) وحيد ( أي حاد = ابتعد ) وبنّ ( أي مكث ) وطحّ ( أي ضرب أو تتبع ) وكلم ( أي جرح ) ونوى ( أي هاجر ) وقام ( أي أوقف بمعنى قاوم ) وقعم ( أي أصابه مرض مميت ) وراع أو ريع ( أي عاد أو رجع ) وقد وردت في الحديث .
وورد للمجهول صيغة فُعِلَ مثل قُنِص وصِيد .
واسم الفاعل على وزن فاعل مثل عاشق .
وردت صيغة فعّل مثل خطط ( أي كتب ) ودمّي ( أي رسم ) وشوّر ( أي ألهب النار ) ورمّع ( أي أسرع الخطى ) وضئل في الأمر ( أي قلل ) وحصى الأمر ( أي أحرس ).
وصيغة فاعل مثل ساعد .
ووردت صيغة أفعل مثل أبتر .
واسم الفاعل منه مثل محب .
ووردت صيغة تفعّل مثل تشوق أى اشتاق .
الحروف: وردت إلى والباء وفي ومن اللام ووردت اللام في الصفوية مع ما أي لم ( نم ) وهي صيغة متشابهة بما نجده في العربية في مثل الكاف وكما، ويظهر أن ( لم ) كانت تستعمل في لهجة ( ونم ) في لهجة أخرى، ومن المؤكد أن ( نم ) نشأت عن لم، وقلب اللام نونًا في الحروف معروف في اللغة المصرية القديمة وفي اللغة ( التيجرينيا ) في الحبشة .
الظرف: وردت بذا ( بذ ) أي هنا، وهذه الصيغة معروفة في الحبشة القديمة أيضًا ( bazé ) ووردت هنا ( هن ) .
العطف: وردت الواو والفاء كما في العربية.
النداء: وردت الهاء للنداء .
لام الأمر: وردت اللام في الاستعمال مثل لام الأمر في العربية .
المفردات:
نجد أن معظم الألفاظ التي وردت في الثمودية معروفة بمعناها ووزنها في اللغة العربية مثل جمل وناقة وفرس ووعل وفلان وفلانة وآل وإلاه وأمير وأسد وأتاز وبأس ( أي بؤس ) وذئبة وذكر وذعر وحزم وظلم ونصر ونقم وسلامة وسعادة وسقم وسرور وصيد وخرّ وقر ورشم ( أي كتابة ) وأيد ( أي قوة ) ولوم ولطيم ( أي يتم ) وليل ومرتع وست ( أي 6 ) وقين ( أي عبد ).
ومن أسماء الأعلام :
أحمد وبدر وجشم ووائل وزيد وحلم وطاهرة وظريف وكلب ولبيد ومذكور ومطر ومكين ومالك وحصن ومر ومروان ونمر ونعم ونوفل وسعد اللـه وفجيع وفليط وفالطة وصمدع وصراخ وضيف وضفران وقنفذ وقيس وقسيس وقرد وربيبة ورهين وراشي ورقاش ورشد ( أورشاد ) وشهر وتيم وتميم وثعبان وأمين وأنوح وذميم وزيت .
وشذت بعض ألفاظ مثل ماء كتبت مي وابن كتبت باء فقط، ووردت كلمات قليلة لم نجدها في العربية مثل طروس أي كلب الصيد وسنا أي سلام ( وهي بهذا المعنى في العربية الجنوبية )
2- الصفوية:
المعبودات: أهمها اللات ( أي الإلاهة ) واللاه ورضو ( رضا ) وهو إله نجمة الصباح ( الزهري ) وشمس وذو الشري وشيع القوم أي حامي القوم ( وكان أتباعه لا يشربون الخمر ) ومنهم حد عويذ وهو معبود الحظ عند قبيلة عويذ بحوران وكذلك الإله رحام أو رحام وأوس وسعد ونهار .
واللغة الصفوية هي لهجة عربية شمالية، ووجه الاختلاف فيها عن اللغة العربية أن أداة التعريف فيها هي الهاء، وبها بعض تأثيرات آرامية في المفردات وأسماء الأعلام والآلهة وذلك لصلتهم بالآراميين .
وقد ورد في الصفوية استعمال المنصوب في حالة النداء والمفعول المكاني والحال مثل " فهلاّت سلاما " وقد دل على ذلك وجود النص اليوناني في حالة النصب إلى جانب الصفوي، " ووجم على أبيه وعلى أخيه ترحًا " أي فألقى حجرًا على قبر أبيه وأخيه وهو حزين .
ولم تحتفظ الصفوية بالتنوين مثل العربية الشمالية ولا بالتمييم مثل العربية الجنوبية والدليل على ذلك أنها لم تثبتها في الكتابة .
المفردات:
كلمة أثر وسفر أخذت معنى الكتابة، ونلاحظ أنه في شعر الهذليين كلمة " آية " جاءت بمعنى كتابة .
كلمة جواي وادي ( وردت بمعنى المنخفض في نقائض جرير والفرزدق ومنها الجواء في معلقة عنترة ) .
دار بمعنى خيام العشرة أو منازلها ( وردت في معلقة زهير بهذا المعنى ).
ها: للنداء وهي هاء التنبيه في العربية والتي نجدها في يا أيها .
ذا للإشارة وذو للموصول .
والواو والفاء للعطف، وقد وردت الفاء أيضًا للاستئناف، واللام للملكية وللمفعولية .
ومن ومن والميم ( بمعنى من ) وعلى .
الأفعال:
نجد من الأفعال نجى ونفر ( بمعنى هرب ) ونظر وندم ( بمعنى الندم أو التكدر وبمعنى الأسف أيضًا ) وتشوق ( أي اشتاق ) .
ووجم على ( أي ألقى بحجر على قبر ) وقد اشتقت الصفوية الفعل من الوجم وهي الحجارة المرقومة، وكان العرب في الجاهلية يضعون الحجارة على قبور من مات منهم أو قتل، وإذا مر العرب على تلك القبور وضعوا حجرًا أو أحجارًا عليها، وظلت تلك الأوجام يهتدي بها العرب في الصحراء إلى ما بعد الإسلام، ولا تزال هذه العادة شائعة في بعض البلاد العربية .
حرص ( أي تطلع ) وكلم ( أي جرح ) ولعن ومرق ( أي مر ) ونجع ( أي اشتقاق ) ونهل ( أي أطفأ ظمأه ) ونعم وسأر ( أي ترك ) وسمع وساعد وسار ( أي سافر ) عور ( أي عمي أو محا : قارن العامية المصرية عوّر ) وغنط ( وقع في محنة ) وغنم وفلط ( أي أنقذ ) وفصى ( أي خلص ) وفرج ( أي عزى ) وقتل وراح ( أي ذهب ) ورعى ( أي رعى أو حرس ) وشتى ( أي استقر في الشتاء . أو شتّى ) وثأر وخبل ( أي أتلف ) .
واشتقت الصفوية من المضعف وزن أفعل بفك التضعيف.مثل أبلل (من بل ) وأبرر ( من بر ) وأجمم ( من جم ) ، وهذا الاشتقاق شائع في اللهجات العربية الآن مثل فلسطين ومصر ومالطة .
وقد تدغم النون في الفعل أحيانًا مثل: واتظر أي وانتظر .
أما الجمع فقد ورد جمع المذكر السالم في الصفوية بالنون مثل: ضالون أو ضالين، كما وردت أوزان جمع التكسير مثل أشياع وأسفار وألسنة ومهالك .
ومن المفردات :
فرس – ضأن - ضال – خيل – خال – خمسة – كبير – لهبة (أي ظمأ ملهب) – ملك – معزى ( أي ماعز ) – نخل ( أي وادي ) – نعم ( من نعمة ومعناها النعمة أو القطيع) – نقأة ( أي دفعة ) – نقمة ( أي ثأر ) – سلام – سمي ( أي سماء ) – سنة – سيف – سطر (أي أثر أو كتابة) – سقم (بمعنى مرض) – عبد – عور (أي عمى) – عرج – عشرة – غيرة ( أي مساعدة ) – ضيف – قبلان ( أي الحول ) – رواح ( أي
هدوء ) – شنأ ( أي عدو أو شانئ ) – ترح ( أي حزن ) – ثلج – ثمان .
وللقبر أسماء عدة في الصفوية منها: قبر – ضريح – نفسة – مقيل – نية .
ومن أسماء الأعلام: